رفات الرسام

حين حملت دورية الشرطة الأوراق للتحقق من مضمونها، بعدما قرر أصدقاؤه تقديم طلب تأجيل له من الخدمة العسكرية الإلزامية عام 1980، كي لا يعتبر فاراً من الخدمة حين يقرر العودة إلى بلده ومدينته، لم يتعرّف أي من سكان الحي الذي تقطنه أسرته، على الاسم المدوّن على صفحتها “عبد الأحد بن فيكتور جرجو توما”، فعادوا إلى رئيسهم ليقدّموا اعتراضهم على هذا الطلب المقدم باسم لا وجود له. وكان كافياً في مدينة الحسكة أن تتساءل في الشارع أو المقهى بصوت عالٍ عن اسم، حتى تتواثب أمامك المعلومات؛ عن أشقائه وأبويه وأجداده، ومدرسته، وألوان قمصانه، ونوعية دخانه، وطريقته في انتعال الأحذية، والطرقات التي يسير فيها والأخرى التي يتجنبها، والطعام الذي يفضله.
عرفه أترابه بالاسم الذي اختاره لنفسه، بتلك الاختزالات، التي تعصر الأسماء لتستخرج معناها، وتقصي حروفها الفائضة “عبد فكتور”
لم يفكر أحد من الشبان، الذين يلتقون أوائل الليل، في إسقاط السلطة، ربما لأنهم اعتبروها من المهام الإعجازية، التي لا تمتحن بها الشعوب الكليلة، وتبقى من مهام الآلهة، أو التجريدات المهولة للجيوش القادمة من وراء الحدود، التي حددت فعل إسقاط السلطة، باستبدال عائلة حاكمة بعائلة حاكمة أخرى، وشعارات مختلفة على البيارق.
لكنهم فكروا في إخراج القليل من الكلام عن قيمة الانتصار العسكري في حرب تشرين. التدخل العسكري للجيش في لبنان لمواجهة الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. انحسار نهر الخابور كمقدمة لجفافه وجفاف أهله معه. بذور القطن الفاسدة التي توزّع على الفلاحين وحثّهم بخطابات نيرانية لإنتاج مواسم وفيرة. الخوات التي تفرضها المخافر والمفارز الأمنية على المزارعين. استيلاء رجالات السلطة على الأراضي العائدة للملكية العامة، واستثمارها باستخدام جرارات وحصادات المؤسسات الحكومية. حقوق المواطنة في مقاربتها العربية والكردية.
أرادوا لفت نظر أهل العاصمة إلى أوجاعهم، إلى وجودهم الذي دثره الغبار والآمال والوعود، قضم أبناؤهم كسور الزجاج، ربطوا الشاحنات بالحبال وجروها بأسنانهم، حطّموا الصخور على صدورهم العارية، تمددوا فوق ألواح الأخشاب التي تبرز رؤوس المسامير المدببة، عن إهمال وازدراء المدن والقرى، التي تنتج محاصيل القطن والقمح والشعير والبترول.
ولأن الليل يأتي قبل الأوان، في مدن الفرات والخابور، تدانوا من المسرح المحلي المتقشف، حين استعان المخرج فؤاد الراشد بسرديات محمود دياب ونجيب سرور التي تروي حكايات الفلاحين على ضفاف النيل، وقد تشابهت مع حكايات مع الفلاحين على ضفاف الخابور ودجلة والفرات، ومن المائدة الشكسبيرية، أي من الولائم الملكية الموشحة بالمعاني الأخلاقية والعاطفية، وهي تدنو من سلطة الأمراء والملوك.
من استسهال قتل الأخ أخاه ليستولي على سلطته وزوجته وتضليل ابنه الوحيد، كما في تراجيديا هاملت، إلى تورط السلطة بالقتل الذي تُعرف بدايته وتُجهل نهايته، كما سردتها مسرحية ماكبث، إلى عروض خطابية عن انقسامات اليسار قبل اقتسامه.
شبان أقدموا على الحياة محمّلين بسلال من عواطف ثورية بحمولة أخلاقية، كان كافياً أن يأتيهم نداء وطني من بعيد، حتى يستخرجوا قلوبهم من تحت أضلاعهم، ويرطموها بالأرض، كحارس مرمى يتهيأ لركل الكرة في الأعالي.
طويل هذا الطريق، اهترأت أحذية الجلد، والصنادل البلاستيك، وشواريخ جلود الحمير. تجرفت دواليب الدراجات الهوائية الصينية من ماركة الثلاث حيات، اهترأت الأقدام وتبددت الأعمار، أملوا الوصول إلى دمشق لمعاتبتها. لكنهم تناثروا، بيأس مكلوم، رذاذاً في بلاد الله الواسعة.

اندفع بشجاعة وثقة وهو في عمر الخامسة عشرة عام 1974 إلى عرض لوحاته في معرض جماعي، دعا إليه المركز الثقافي في مدينة الحسكة، وأعاد التجربة في العامين التاليين في المكان ذاته، قبل أن يحمل لوحاته في عام 1978 إلى معرض جماعي في دمشق. تنقّل بعدها إلى معرضين آخرين في مدينتي الحسكة والرقة.

أجفله صوت الرصاص الذي بدأ بالاغتيالات لرجال الحكومة، ازدياد حواجز التفتيش على البطاقات الشخصية في الشوارع، الاعتقالات التي أخذت الكثير من الأصدقاء إلى السجون، ودفعت غيرهم إلى مغادرة البلاد، تطاول زمن الخدمة العسكرية التي تتزامن مع هدر يكاد يكون ممنهجاً لأعمار الشبان.

حسم خيار السفر إلى إسبانيا في أواخر عام 1979، وفي ليلة رأس السنة 1980 كان في الطائرة التي حملته من دمشق إلى بيروت ومنها إلى مدريد عن طريق مطار فيينا، وكان عمره واحدا وعشرين عاماً. كتب على بطاقة بريدية أرسلها إلى أهله من مطار فيينا: “شعرت عندما غادرت دمشق متوجهاً إلى المطار، أن الدنيا توقفت عن الدوران، وكذلك توقّف عقلي”.

أقام معرضه الأول في إسبانيا بعد وصوله إلى مدينة “سراقوسا” بعام واحد، وتابع بعده بمعارض سنوية.

استخراج الوحوش من جوف البشر لترويضها وإعادة إدراجها في الثبت الإنساني. دفع الوحوش الخرافية إلى التنعم بإطلالات إنسانية، لإتمام الحوارات والمعاتبات والتأمل في العالم المرير للأشياء. لم يتورط بلا طائل في نزع أنيابها، وإنما عمل على تقديمها ككائنات منزوعة الوحشية، تتأمل وتتحاور وتنزلق إلى هاوية الحب، قبل أن تتعالى إلى معناه. بارتجاف طويل لعظامه، خروج ماؤه وعرقه، سهاده، لهيب حماه. لم تحتج أفكاره لإسراف في الألوان، غالباً ما اكتفى بالأبيض والأسود للتعبير عن أوجاعها وفضائلها وخسرانها.

تصدعت رئتا “عبد فكتور”، وأكلت خلاياهما المريضة خلاياهما الأقل مرضاً، ولم تعد تنفع في تطبيبهما المصول، وعجزت عن تهدئته زرقات المخدر الراعدة.

طالما وقف أمام شرفة غرفته الواطئة في المشفى، قابضاً بكفيه على حديد الدرابزين، مهينماً بصوته المخنوق:

“ع طريق إسطنبول
من القطار نطيتو
لخاطر عينيك السود
في الحبوس حطيتو”.

لم يسمعه أحد، من الذين يجب أن يسمعوه، أولئك المنحدرون من أعالي جبال ماردين والقصور ومديات وتل أرمن، الذين حملوا أولادهم ومتاعهم الخفيف وجروحهم، من بلدة إلى بلدة، ومن مدينة لأخرى.

دائماً هناك “عيون سود”، ينادين المسافر للمجازفة بحياته، بقفزٍ باسلٍ من عربات قطار، والإذعان بعدها لسلاسل زنازين السجن.

بخروجٍ عاصفٍ عن تقاليد راسخة، بالدفن المثقل بترانيم الأمل بالقيامة، أوصى زوجته بحرق جثمانه، وتوزيع رماده على حوجلتين.

تنثر النصف الأول في البحر المتوسطي، وتنثر النصف الثاني في بحر السويد.

– ألن تترك شيئاً لأرض بلادك يا عبد؟
– لم يبقَ أحد في بلادي، غادر إخوتي وأصدقائي البلاد. لم يبق فيها سوى الرماد الذي لا يحتاج لرمادي.

لم يستيقظ بعد غفوته في الرابع والعشرين من أيلول 1995، في مشفى “سراقوسا”، ولما تزل مياه البحار تتقاذف رماده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.