ما الذي تبقى من وثيقة قرطاج

محمد قاسم

” وثيقة قرطاج التي بمدى إحترامها وتجسيدها يتحدد نجاح هاته الحكومة وعلى أساس الإلتزام بها يتحدد تعاطينا معها ، فبوصلتنا هي الوطن وليس التموقع أو كسب نقاط ضد هذا الطرف أو ذاك . واليوم، أشهر بعد تشكيل الحكومة (وفي ظل الأزمات لا يقاس الزمن السياسي بالسنين وإنما بالأشهر والأسابيع ) ” نعم كانت هاته إحدى الرسائل التي تضمنتها كلمة المناضلة الوطنية مية الجريبي في افتتاح المؤتمر السادس للحزب الجمهوري .. مية التي اعتاد التونسيون صراحة إجابتها عن حيرتهم ومشاغلهم وتعبيرها عن همومهم وقضاياهم طيلة مسيرتها النضالية، لم تفاجئ متابعي الشأن العام من نخب وفاعلين سياسيين وعموم الشعب التونسي بوضوح خطابها وقوة حجتها والتزامها بالمبدئي موقفا وممارسة بما جعلها مثالا في النزاهة والمسؤولية في احترامها لجوهر وقيمة الفعل السياسي الذي يوشك على الاندثار في المشهد اليوم

. فلئن قدمت مية الجريبي في كلمتها ورقة نقدية بسطت فيها رؤيتها لمسار الست سنوات ومحطاته ومنعرجاته، فإنها صوبت بدقة نظرة شخصت من خلالها واقع اليوم، فعبرت بوضوح عن تواصل حالة التخبط والفشل السياسي للسلطة في حلحلة الأوضاع المتردية مما يعمق حالة الخيبة والإحباط التي تغيم على أذهان التونسيين وهم يكابدون الحيف والغبن والتهميش الذي كابدوه طويلا في الجهات المحرومة والمفقرة .

لم يكن لتكون الرسالة غير هاته الرسالة في ظل إتباع حكومة يوسف الشاهد لذات السياسات التي انتهجتها سابقاتها . أو لم يجمع المجمعون على وثيقة قرطاج على انسداد أفق حكومة الحبيب الصيد وفشلها وفقدانها للبرامج الإصلاحية والتنموية ؟ أو لم تقدم حكومة الشاهد ” الوحدة الوطنية ” على أساس حكومة طوارئ عاجلة ؟ ها قد غابت النجاعة بغياب البرنامج الحكومي في غياب دور الضمانة والرقابة للوثيقة وصناعها. ستة أشهر على تولي حكومة يوسف الشاهد بزمام الأمور، يرى مكوناها الرئيسيين غير كافية لتقييم أدائها كل ما واجهت نقد المعارضة أو الأطراف الاجتماعية ، ويراها في ذات الوقت لوحديهما قد حققت المأمول والمنشود، وهنا نتساءل : بأي منطق يتحقق معنى حكومة الوحدة الوطنية ؟!!

* حكومة لحل الأزمة أم هي ولادة أزمة، إنه وباستعراض المنطلقات والنتائج ، نقف على أمرين ثبت تحققهما بشكل فعلي، أولهما أن هاته الحكومة قد سرعت بعصف الحزام السياسي لها ومرد هذا إما المصالح الحزبية الضيقة وهنا يتحقق التناقص مع أسس دعمها أو نتيجة أخطائها وهذا في حد ذاته دليل على هشاشة هذا البناء منذ البداية، وثانيها هو أنها حكومة الهروب إلى الأمام والسير نحو المجهول ليس إلا

* مبادئ وثيقة قرطاج يمكن أن يسجل بعض المراقبين نقاطا يعتبرونها إيجابية في مسار هاته الحكومة ، إلا أن هذا يبقى دون الأهداف المرسومة بوثيقة قرطاج التي أضحت شبه افتراضية .

نعم شبه افتراضية وقد تبخرت مبادئها ومقاصدها في السياسات الحكومية المتبعة التي غلب عليها الارتجال والحدية والتملص من العهود وبيع الوعود . فأثبتت حكومة يوسف الشاهد يوما بعد يوم ارتهان قرارها لأروقة القصر ومطبخه السياسي الذي تحكمه الأهواء والأجندات بعيدا عن أي إرادة جادة ومسؤولة هدفها التغيير والقطع مع أساليب الحكم البائدة . ارتهان القرار الحكومي هو من ارتهان القرار السياسي للدولة، والذي انكشف فاضحا برضوخها لإملاءات صندوق النقد الدولي وشروط معادلة الاقتراض والنهب العالمي التي تضعف مدلول سيادة القرار الوطني . هذا الضعف الذي أدان تعاطي حكومة قرطاج مع جريمة اغتيال الكيان الصهيوني للشهيد محمد الزواري وما لف مجريات الجريمة من اختراق صارخ للسيادة الوطنية قوبل بالصمت والحذر والتكتم وغياب الإدانة الصريحة .

تتلاشى أسس وثيقة قرطاج بتلاشي مقومات محاربة الفساد والفاسدين ، والحال أن منظومة الفساد أصبحت أكثر من أي وقت مضى نافذة متحكمة بعصب الحكم ودوائره ، فكيف يمكن الإدعاء بمحاربة الفساد دون تفعيل منظومة إجرائية للمحاسبة والوقاية على حد السواء . فأين تتجسد مضامين وثيقة قرطاج، هل في حياد الشاهد وطاقمه عن إرساء سياسة تنموية حقيقية تراعي التمييز الإيجابي بين الجهات وإقرار سلة من الإجراءات العاجلة لفائدة المعدمين والمعطلين في الجهات المهمشة والمفقرة، أم في تناسي دورها في الإصلاح الهيكلي للصناديق الاجتماعية التي لازالت تغرق في حالة العجز الحاد، أم في ما طبع التعيينات الوظيفية والإدارية الأخيرة التي لا تزيد إلا من إثارة الشبهة وتبديد الثقة في مصداقيتها عبر لجوئها لمنطق الولاءات الحزبية قبل الكفاءة في تسميات المعتمدين الأخيرة …

باستعراض تجربة الأشهر الست لهاته الحكومة ، ليس في وسعنا إلا الترحم على وثيقة قرطاج وحبرها، فلئن التزم بها هذا الطرف أو ذاك فهذا لا يغير بالأمر شيئا طالما أن الحكومة في حل منها لا رقيب ولا حسيب .. ولئن انتهى بها الحال إلى هذا المستقر، فإن هذا لا يعني أنها في طريق مفتوح لتنفيذ أجندات جناحي الائتلاف الحاكم ” حركة النهضة ونداء تونس ” ، أمام الدور الموكول على الأطراف السياسية والاجتماعية كالحزب الجمهوري والإتحاد العام التونسي للشغل في التصدي لهذا الانزلاق الذي قد يعجل بعزلتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.