رحلة طويلة تقطعها السجائر المهربة إلى السوق التونسية. قد تبدأ الرحلة في الصين شرقا أو في أفريقيا جنوبا لتصل إلى الحدود التونسية مع ليبيا أو الجزائر. وهنا يبدأ دور «الكنترة» أو التجارة الحدودية لتمرير التبغ المهرب ضمن بيزنس تهريب أكبر إلى داخل البلاد. وعبر طرق خاصة تصل الشحنات في نهاية الأمر إلى أسواق في العاصمة حيث تستخدم الغمزات والكلمات غير الواضحة لاتمام صفقات البيع والشراء. وفي ظل أزمة الأوضاع المعيشية بعد الربيع العربي، ينخرط آلاف الناس في تلك الدائرة التي تسير فيها التجارة الممنوعة للتبغ المهرب.

تقول تقارير صادرة عن جهات أمنية وعن الديوانة التونسية (الجمارك) وأكدها شهود عيان إن الوضع على حدود تونس مع ليبيا لا يختلف عن مثيله على الحدود مع الجزائر، حيث تنشط «الكنترة» والتجارة الموازية مع الجارتين.

وتقول وثائق خاصة مسربة من وزارة التجارة إن التبغ المهرب يصل إلى الحدود التونسية مع ليبيا عبر مسارين أحدهما إفريقي يبدأ من بنين حتى ليبيا، والآخر عربي يبدأ من الإمارات عبر مصر ثم ليبيا ويمر به أساسا التبغ القادم من الصين.
وأما الحدود مع الجزائر، فيأتيها التبغ المهرب من البينين ثم النيجر ثم مالي ثم الجزائر وصولا إلى تونس (في ولايات القصرين وقفصة وجندوبة والكاف).

تجارة يعمل بها الآلاف
وحسب دراسة أكاديمية وعلمية أعدها سنة 2013 الأستاذ الجامعي د. محمد الهدار في المنطقة الحدودية ببن قردان، تمّ إحصاء حوالي 60 نفرا من تجار الجملة ينشطون في مجال تهريب السلع المختلفة في بن قردان وكان بينهم خمسة تخصصوا في تجارة التبغ مقابل 20 شخصا في تهريب النسيج والملابس و10 في المواد الغذائية و10 في الأجهزة الكهرومنزلية. وخلصت الدراسة إلى أن حوالي 3 آلاف شخص يعملون في هذه الأنشطة التي تدخل في خانة التجارة الموازية لحسابهم الخاص والتي تعتبر الشغل الأهم في بن قردان.
لم يكن طريق الوصول إلى المنطقة الحدودية بالسهل. وقبل بوابة الحدود، عادة ما يقوم أهالي مدينة الزكرة الواقعة على بعد كيلومتر من رأس جدير آخر نقطة حدودية بين تونس وليبيا بوقفات احتجاجية للمطالبة بالتنمية. استوقفت مجموعة من سكان الزكرة سيارتنا أثناء وقفة احتجاجية لتحقيق مطالب تنموية أو لفتح البوابة الحدودية بين تونس وليبيا والتي تغلق أحيانا لأسباب أمنية.
يقول علي يحيى أحد التجار إن الزكرة هي آخر منطقة حدودية في الجمهورية وتبعد 15 كيلومترا عن رأس الجدير. ولم ينف عدد من تجار الحدود أن تجارة البضائع المهربة هي مصدر رزقهم في ظل غياب حلول تنموية في الجهة.
وقال أحد التجار :»أنا شاب لا عمل لدي غير جلب بعض السلع وعلب السجائر هنا. لكن أهالي بن قردان والجهة رجال نستبسل ضد دخول السلاح.»
وبالنسبة لأهالي المنطقة من التجار يمكن التجارة بكل المواد في سبيل «لقمة العيش» وفي ظل ارتفاع نسب البطالة في الجهة لكنه وحده السلاح والمخدرات نقاط حمراء.
وقال تاجر آخر في الوقفة الاحتجاجية :»لقد قاطعنا جنازة أحد التجار المهربين لأنه كان يهرب الخمور والأسلحة والممنوعات.»
سمح أهالي الزكرة لسيارتنا بالعبور بعد أن أكدوا أن الإعلام وحده قادر على إيصال صوتهم وتغيير صبغة المنطقة التي لا تنمية فيها.
وصلنا البوابة الحدودية حيث كانت السيارات تخرج من نقطة الحدود لتجد في الاستقبال عددا من الأهالي يحملون رزما من الأموال لتغييرها. إنها تجارة الصرف المنتشرة هناك كما تنتشر علب السجائر المهربة والبنزين المهرب على قارعة الطريق وجوانبه.
كانت السيارات تخرج محملة بعد عمليات التفتيش. أسر لنا أحد تجار الصرف «العملة» وهو أيضا يعمل في تجارة بعض البضائع المهربة، قائلا :» يمكن جلب الكثير من البضائع طالما لم تشمل الممنوعات من أسلحة ومخدرات.. التجار معروفون. قد تحدث أحيانا بعض التضييقات وتغلق البوابة. لكن التجار الذين يجازفون بحياتهم لجلب البضائع هم أول خط دفاع للبلاد فهم من يجلبون المعلومات حول تواجد الإرهابيين وما يحصل في الضفة الأخرى. ونحن والليبيون إخوة ونتعامل.»
ولم ينف أن تكون بعض المواد المهربة من السجائر لكن بكميات أقل مما يعرف به مهربون آخرون لا يدخلون البلاد من نقاط العبور الرسمية.
وقال إطار أمني رفيع المستوى يشرف على المناطق الحدودية برأس الجدير «تتميز هذه المرحلة بدقة الوضعية وحساسيتها. مقاومة الارهاب والتهريب هما وجهان لعملة واحدة. وقد تم توفير الدعم اللازم من أمن وأسلحة وإطارات سامية وديوانة وجيش على الحدود مع رأس الجدير وبقية المناطق الحدودية. لمقاومة التهريب والإرهاب.»

طرق خاصة
من بن قردان والحدود الليبية التونسية تنطلق شاحنات مخبأ بها التبغ المهرب عبر طرقات خاصة إلى مختلف أنحاء الجمهورية ويمكن أن تصل إلى العاصمة، حيث تنشط أسواق تجارة البيع المهرب في أماكن باتت معروفة لتجار التفصيل وتجار الطريق المنتشرين على قارعة الطريق، وهو ما أكدته مصادر أمنية.
وعلى الطريق من بن قردان وفي اتجاه العاصمة، أشار السائق الذي كان مرشدنا بالمنطقة إلى سيارة دون أرقام كانت تسير بسرعة جنونية وتجاوزت سيارتنا، لتدخل في طريق فرعي. وقال «إنهم مهربو النفط والسجائر والعاملون في الكنترة لا يأخذون الطريق الرئيسي أو المعروف.»
وأضاف «الطرق التي يمر منها المهربون ليست هذه الطرق المعروفة التي يعبرها عامة الناس فهي طرق ملتوية وفي الداخل.»
وعبر الطريق الرئيسية نحو العاصمة كانت صور علب السجائر وأيضا عبوات البنزين المهرب المعروضة في قارعة الطريق ملء السمع والبصر.

التفاهم بالغمزات
لم تكن عملية الحصول على التبغ المهرب بالصعبة على الحرفاء المارين ولا على التجار في منطقة باب الجزيرة بالعاصمة تونس. هنا تنشط السوق مع ساعات الفجر الأولى كما لاحظناها رفقة دليلنا، ومن خلال جولة في المكان بدت الغمزات والجمل التي يفهمها التجار مبهمة أثناء عملية شراء بعض تجار التفصيل لسلعهم.
لكن «وراء الكميات الصغيرة المعروضة في العلن، هناك علامات وإشارات يمكن تبادلها للحصول على كميات أكبر، كراتين وعلب.» هذا ما أسر به لنا أحد البائعين مشيرا إلى وجود مخازن من السلع لا يعلم بمكانها غير كبار التجار.
لم تمض لحظات حتى قام تاجر التفصيل بالحصول على سلعته بعد أن تتبع خطوات أحد الباعة الذي بادله بعض الجمل المقتضبة. ويبدو أن السر في العملية التجارية النهوض باكرا مع ساعات الفجر وقبل الثامنة صباحا من أجل الحصول على «سلعة» الجملة وهو ما شاهدناه خلال زيارة ميدانية للمنطقة.
لم يكن من السهل التفطن لكواليس البيع والشراء في هذه المنطقة لولا دليلنا الذي خبر المكان وعمل سابقا في الأمن، والذي أعلمنا أن أغلب هؤلاء هم من التجار الصغار لكن المخازن الكبرى في أماكن أخرى عادة ما تفطن إليها العمليات الأمنية بعد مداهمات.

أسباب تفاقم الظاهرة

حسب تقارير رسمية ودراسة من وزارة التجارة سنة 2016، تنامت ظاهرة تهريب التبغ في تونس بداية من سنة 2011 التي شهدت انطلاق انتفاضات الربيع العربي، وترجع التقارير تفاقم الظاهرة إلى حالة الانفلات الأمني خاصة على مستوى المناطق الحدودية مع بروز شبكات تهريب ذات علاقة بالإرهاب، وهو ما ذكرته دراسات تناولتها هيئات الجمارك العربية مؤخرا خلال اجتماع لها في تونس.
وترجع وثائق وتقارير وزارة التجارة التونسية تطور آفة التهريب إلى مجموعة من الاسباب منها تأزم الوضع الاجتماعي بالبلاد مع تزايد عدد العاطلين عن العمل وتوجه أغلبهم نحو التهريب الذي يوفر إيرادات مالية كبيرة، إضافة إلى تراجع المقدرة الشرائية للمواطن وإقباله على استهلاك السجائر المهربة حيث تم تسجيل تفاوت في أسعار التبغ المهرب تقدر بنسبة 60 بالمائة أقل من المنتج الوطني.
وتفاقمت ظاهرة التهريب مع تذبذب نسق تزويد السوق بالسجائر المحلية بعد أن تم إلغاء عقد المناولة التي ربحتها شركة JTI الأجنبية التي تورد حوالي 70 بالمائة من احتياجات سوق السجائر (نوعية مارس خفيف) . وشهدت أيضا سوق السجائر الموردة رسميا تذبذبا لتتراجع الكمية من 143 مليون علبة سنة 2013 إلى 125 مليون علبة في 2015، وهو ما تؤكده وثائق تم الحصول عليها من اللجنة الوطنية لمقاومة التهريب.
ومع هذا التفاقم المطرد لتهريب التبغ، كان طبيعيا أن تتزايد الأضرار لتمس الاقتصاد وصحة التونسي بل وأمنه أيضا بسبب ارتباط التهريب بأعمال الإرهاب، وهو ما تتناوله الحلقة الثانية من هذا التحقيق.

أرقام ودلالات

60
بالمائة أسعار التبغ المهرب أقل من المنتج الوطني

25
مهرّبا يتصدّرون قائمة أثرياء

17
سيجارة يستهلكها التونسي يوميا

1
مليار علبة المعدل السنوي لاستهلاك السجائر للتونسي

500
مليون دينار خسائر خزينة الدولة في 2015 من تهريب السجائر

50
بالمائة من الاقتصاد التونسي مواز وغير رسمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *