عبد اللطيف الحداد: مظاهر التمييز والوصم والتفرقة تُغطّي على المُقاومة التونسية لجائحة كورونا :

عبد اللطيف الحداد

لقد فشلنا في صناعة الإنسان التونسيّ السويّ الناظر في أحوال تونس في عهودها الأخيرة، لا يلبث أنْ يقف على ما تضجّ به من الجهوية المقيتة والتمييزية البغيضة والسيكتارية الدميمة وغيرها من مظاهر التفرقة التي يجلوها بطريقة مُضْمَرَةٍ أو صريحةٍ الخطابُ والممارسةُ سواء بسواء في المباريات الرياضية والتظاهرات الكبرى وفي الاحتجاجات الاجتماعية وشتّى التعبيرات الثقافية. لكنّ المَشاهد التي توالت على التونسيين أثارت صدمة الكثيرين منهم وأدمت قلوبهم وحيّرت عقولهم، مَشاهدَ تناسل بعضُها من بعضٍ وتنوّعت بين رفضِ مُواطنين لدفْن موتى الفيروس الوبائيّ ينتهي بتدخّل القوة العامة لفرض الدفن، ورفْض الإطارات الاستشفائية إيواء المُصابين بالكوفيد الوافدين من مناطق مُجاورة كما حدث أمس بالمستشفى الجامعي بمدنين، وقبل هذا وذاك رأينا جُموعا تحتشد بحمّام الشط مانعةً صاحب نُزْل من تخصيصه للحجر الصحّي الإجباري للوافدين المفترضين من الخارج، وجُموعا تفعل الأمر نفسه بشطّ مريم، وجموعا أُخَر تُطالب السّلطَ بعدم إجلاء التونسيين العالقين في عواصم العالَم ولا سيّما العواصم التي كان قد عمّها الوباء مثل إيطاليا وفرنسا. والمظاهر التمييزية من هذا القبيل كثيرةٌ وعديدةٌ. كلّها تتفق في تحوّل الكورونا من فيروس قاتل تنتقل عدواه بسرعة هائلة ممّا يفرض التوقّيَ الجماعيّ منه واستنفار كلّ الإمكانيات والطاقات والمبادرات التضامنيّة لدحْرِه، إلى عمليّة وَصْمٍ فظيعة ورُهابٍ مُجتمعيٍّ شاملٍ ومُرعِبٍ. بدلاً من التضامن والوحدة اللذيْن تفرضُهما مواجهةُ الوباء إذ لا أحَدَ آمنٌ من عدوى أو ضامنٌ لغدٍ، تُبْنَى الجدرانُ العازلةُ على أسُسٍ تبدأ من الصحّة والسّلامة الجسديّة وتمضي في طريقها الماحق لا تُبقي ولا تذرُ متغذّيةً بكلّ العصبيّات القبلية والعرقيّة والترسّبات الجهوية والمناطقيّة والعُقدِ الذكوريّة. صحيحٌ أنّه من الجائز تفسيرُ هذه التراجيديا الكوفيدية بعواملَ مباشرة مُتصلة بانهيار القطاع الصحّي العمومي [عدم وجود طبيب إنعاش بالمستشفى كما هو الحال في جربة أو وُجود طبيب واحد لا يُناوبه أحد مثلما هو الحال في مدنين وتطاوين، أو الافتقار إلى أبسط المُعدات التي يحتاجها مسلك كوفيد، أو مُتّصلة بالخطّة الفنية المُعتمَدة في مواجهة الوباء [البروتوكول وطرق التنفيذ]. كما إنه من الجائز تفسيرُها بعوامل عميقة مُتّصلة بالتمثّلات الجمعيّة للفيروس ووقُوع الكلّ تحت طائلة الخوف ومتّصلة كذلك بالدولة وسُلطانها المتهالك. كلّ هذا صحيحٌ بنسبةٍ ما، لكنَّ الصحيحَ أيضا وبنسبةٍ أكبر أنّ فقراً ثقافيّا مُدقعاً وخواءً قيميّا مُفزِعاً ما انفكّا يُعبّران عن نفسيهما في كلّ الأزمات والمُنعطفات الحادّة التي شهدتْها بلادُنا في السنوات الأخيرة. ما المدنيّة وما المُواطنَةُ وما الديمقراطية والحوكمةُ وحقوق الإنسان إلاّ حيلةٌ يزدانُ بها الخطابُ وحِلْيَةُ يحسنُ بها المظهر دون المخبر. وهكذا فإنّ الكورونا لم تأتِ لتُهدِّد حياتنا وتضرب نُظمَها الاقتصادية والاجتماعية والصحية الهشّة وتضعنا في أقفاصٍ أقعدتنا عن كل حركة وكلّ فعلٍ وخلّصت الطبيعة من دمارنا فحسبُ، بل جاءت لتَضَعَنا في مُواجهة قاسية مع ذواتنا وضمائرنا وما أهْدَرنا من إنسانيتنا .. جاءت لتكشف عوراتنا وسوءاتنا. إنّ مَشهد ذوي الميدعات البيضاء رجالا ونساء وهم في مدخل مُؤسسةٍ استشفائيةٍ جامعيّةٍ عموميةٍ يولولون ويُدڤـجون مريضة في حالة حرِجةٍ جيء بها من جربة ويُجيبون على استجداء الوالي واسترحامه بالرفض القطعيّ بتعلّاتٍ وذرائعَ مُتنكّرة لمواثيق الطبّ وأخلاقيّاته بل للمواثيق الإنسانية والقواعد الدّنيا لأبسط عيْش مُشترَك، إنّ مشهدا مُريعاً كهذا تنسلخ فيه البلوزة عن بياضها ورمزيتها الملائكيّة، مَشهدٌ مُدينٌ لنا جميعاً أيَّ إدانةٍ: مُدينٌ لمَشْفانا وإدارتنا ونقابتنا وجامعتنا ومدرستنا وأُسْرَتنا وحومتنا كلهم معا وبدون استثناء. لقد فشلوا كلهم معا وبدون استثناء.. في صناعة الإنسان التونسي الوطنيّ المُواطنيّ السويّ. لقد فشلوا وفشلنا.