
الجدل حول ما يُمنح لأسلاك كثيرة من الوظيفة العمومية والمُنشآت العمومية من وُصولات البنزين والـ Tickets-Resto هو جدلٌ مُجتزأٌ .. وفي ظلّ هذه الجائحة الكونية ليس هذا مكانه ولا أوانه ولا عنوانه.
الجدلُ الذي أدعو إليه في وقت غير هذا الوقت المنذور لمقاومة الوباء، كمدخل إلى إعادة بناء شاملة للوظيفة العمومية والقطاع العام، وكسبيل من السُّبُل المُؤمّنة لجزء اساسيّ من العقد الاجتماعي الجديد، هو جدلٌ يجب أنْ يتعلّق بمراجعة عميقة لنظام الوظيف الحالي الذي اِستنفد شرطه وإمكانياته. نظامٍ وُضعت أسسُه في ستينات القرن الماضي وسياق اقتصادي واجتماعي طوته الأزمان وتحوّلات العالَم المتسارعة، ليس بمقدوره أنْ يُجيب على تحدّيات اليوم وتطلّعات الأجيال الجديدة.
محمولٌ على هذا الجدل، في رأيي، أنْ ينكبَّ على النظر في المسار المهني للموظّف، وبرامج التدريب والتكوين ورفع القُدرات، وشبكة التأجير ومعاييرها المُثمّنة للكفاءة والتميّز في الأداء بعيدا عن المعايير المُتهافتة والضاربة لمبادئ المُساواة وتكافؤ الفُرص، من قبيل “الحقوق المكتسبة” و”ثوابت القطاع” والسبق والاستئثار.
وليس بوسع جدلٍ كهذا أنْ يفعل هذا وذاك بدون إعادة بناء الخارطة الجغرافية لهذه الوظيفة وكوادرها المتمتّعة بالخبرات والمهارات في أفق الحدّ من المركزية المفرطة والتفاوت الصارخ بين الجهات المحظوظة [العاصمة حيث تتركّز السلطة وأفضل المرافق والخدمات + الحواضر الممتدة على الشريط الساحلي] وبين الجهات الداخلية المحرومة والقصيّة والمَنسيّة.
ذلك هو الطريق الوحيد الممكن إذا رُمنا حقا الاستثمار في رأس مال الدولة البشري وتأهيله لتحقيق القيمة المُضافة التي يحتاج إليها اقتصادنا وهو على الحال الذي نرى انكماشاً وهشاشةً وضعفاً.
دخلتُ إلى التدريس منذ العام 1990 ومازلتُ فيه إلى اليوم [عدا فترة وُضعتُ فيها على الذمة من أفريل 2011 إلى جانفي 2014] وأنا من المُخلصين في عملي بما أوتِيتُ وأوتَى. لكنّي طيلة هذه الفترة لم أشعر يوما بأنّي أجازَى على ما أبذل من جُهدٍ.
كلُّ المُدرّسات والمُدرّسين، وكلّ أعمالهم مهما كان انتظامها وجودتها وإبداعيّتها وأيّا تكن درجتُها قوةً وضعفاً، يوضعون على خطّ مُستقيم نمطيّ آليّ تماثليّ لا أثَر فيه لأيّ خُصوصيّة. بل إنّ هؤلاء المُدرّساتِ والمُدرّسين -شأنهم شأن كلّ الموظّفين- لا يحتكمون إلى أيّ مرجع تقييميّ حقيقي أو سُلّم قيْس متعلّق بالآداء أو المهارة أو التواصل أو المُبادرة أو التفوّق. وحتّى ما كانت تكفلُه التقييماتُ البيداغوجية من قيْسٍ تترتّبُ عنه توصياتٌ وتدخّلاتٌ بالتعديل أو الترشيد أو التشجيع والتحفيز، جاءت الترقيات الاستثنائية اللعينة لتنسفه وتُفقدَه جدواه ومعناه.
الكلّ في الوظيفة العمومية والقطاع العام واحدٌ لا تعدّد فيه ولا تنوّع أو قُل مع الجاحظ في كتاب الحيوان “فإنّ الجميع إنما هو واحدٌ ضُمَّ إلى واحدٍ، وواحدٌ ضُمَّ إليهما” [على أنّ أبا عثمان كان في هذا يتحدّث عن نظام الكون وبدائع خلقه الإلهي]
وهكذا فإنّ المسألة أصدقائي أبعدُ من قصّة بونوّات الـ essence والـ tickets-resto التي يستأثر بها أولاء دون هؤلاء .. أو التي يُعادُ بيعُها للخاصة (!) أو للمقتنصين لمثل هذه البتّات الهزيلة (!) أو تُبتاعُ بها قضية الشهر من المساحات التجارية الكبرى (!)
إنها أبعدُ من ذلك كلّه وبكثير