رفات الرسام
On 25 أبريل، 2017 by sarraاندفع بشجاعة وثقة وهو في عمر الخامسة عشرة عام 1974 إلى عرض لوحاته في معرض جماعي، دعا إليه المركز الثقافي في مدينة الحسكة، وأعاد التجربة في العامين التاليين في المكان ذاته، قبل أن يحمل لوحاته في عام 1978 إلى معرض جماعي في دمشق. تنقّل بعدها إلى معرضين آخرين في مدينتي الحسكة والرقة.
أجفله صوت الرصاص الذي بدأ بالاغتيالات لرجال الحكومة، ازدياد حواجز التفتيش على البطاقات الشخصية في الشوارع، الاعتقالات التي أخذت الكثير من الأصدقاء إلى السجون، ودفعت غيرهم إلى مغادرة البلاد، تطاول زمن الخدمة العسكرية التي تتزامن مع هدر يكاد يكون ممنهجاً لأعمار الشبان.
حسم خيار السفر إلى إسبانيا في أواخر عام 1979، وفي ليلة رأس السنة 1980 كان في الطائرة التي حملته من دمشق إلى بيروت ومنها إلى مدريد عن طريق مطار فيينا، وكان عمره واحدا وعشرين عاماً. كتب على بطاقة بريدية أرسلها إلى أهله من مطار فيينا: “شعرت عندما غادرت دمشق متوجهاً إلى المطار، أن الدنيا توقفت عن الدوران، وكذلك توقّف عقلي”.
أقام معرضه الأول في إسبانيا بعد وصوله إلى مدينة “سراقوسا” بعام واحد، وتابع بعده بمعارض سنوية.
استخراج الوحوش من جوف البشر لترويضها وإعادة إدراجها في الثبت الإنساني. دفع الوحوش الخرافية إلى التنعم بإطلالات إنسانية، لإتمام الحوارات والمعاتبات والتأمل في العالم المرير للأشياء. لم يتورط بلا طائل في نزع أنيابها، وإنما عمل على تقديمها ككائنات منزوعة الوحشية، تتأمل وتتحاور وتنزلق إلى هاوية الحب، قبل أن تتعالى إلى معناه. بارتجاف طويل لعظامه، خروج ماؤه وعرقه، سهاده، لهيب حماه. لم تحتج أفكاره لإسراف في الألوان، غالباً ما اكتفى بالأبيض والأسود للتعبير عن أوجاعها وفضائلها وخسرانها.
تصدعت رئتا “عبد فكتور”، وأكلت خلاياهما المريضة خلاياهما الأقل مرضاً، ولم تعد تنفع في تطبيبهما المصول، وعجزت عن تهدئته زرقات المخدر الراعدة.
طالما وقف أمام شرفة غرفته الواطئة في المشفى، قابضاً بكفيه على حديد الدرابزين، مهينماً بصوته المخنوق:
“ع طريق إسطنبول
من القطار نطيتو
لخاطر عينيك السود
في الحبوس حطيتو”.
لم يسمعه أحد، من الذين يجب أن يسمعوه، أولئك المنحدرون من أعالي جبال ماردين والقصور ومديات وتل أرمن، الذين حملوا أولادهم ومتاعهم الخفيف وجروحهم، من بلدة إلى بلدة، ومن مدينة لأخرى.
دائماً هناك “عيون سود”، ينادين المسافر للمجازفة بحياته، بقفزٍ باسلٍ من عربات قطار، والإذعان بعدها لسلاسل زنازين السجن.
بخروجٍ عاصفٍ عن تقاليد راسخة، بالدفن المثقل بترانيم الأمل بالقيامة، أوصى زوجته بحرق جثمانه، وتوزيع رماده على حوجلتين.
تنثر النصف الأول في البحر المتوسطي، وتنثر النصف الثاني في بحر السويد.
– ألن تترك شيئاً لأرض بلادك يا عبد؟
– لم يبقَ أحد في بلادي، غادر إخوتي وأصدقائي البلاد. لم يبق فيها سوى الرماد الذي لا يحتاج لرمادي.
لم يستيقظ بعد غفوته في الرابع والعشرين من أيلول 1995، في مشفى “سراقوسا”، ولما تزل مياه البحار تتقاذف رماده.
You may also like
الأرشيف
- أكتوبر 2025
- سبتمبر 2025
- أغسطس 2025
- يوليو 2025
- يونيو 2025
- يونيو 2022
- مايو 2022
- أبريل 2022
- مارس 2022
- فبراير 2022
- يناير 2022
- ديسمبر 2021
- نوفمبر 2021
- سبتمبر 2021
- أغسطس 2021
- يوليو 2021
- يونيو 2021
- مايو 2021
- أبريل 2021
- مارس 2021
- فبراير 2021
- يناير 2021
- ديسمبر 2020
- نوفمبر 2020
- أكتوبر 2020
- سبتمبر 2020
- أغسطس 2020
- يوليو 2020
- يونيو 2020
- مايو 2020
- أبريل 2020
- نوفمبر 2019
- أكتوبر 2019
- يونيو 2019
- مارس 2019
- فبراير 2019
- يناير 2019
- ديسمبر 2018
- أكتوبر 2018
- أغسطس 2018
- مارس 2018
- فبراير 2018
- يناير 2018
- ديسمبر 2017
- نوفمبر 2017
- أكتوبر 2017
- سبتمبر 2017
- أغسطس 2017
- يوليو 2017
- يونيو 2017
- مايو 2017
- أبريل 2017
- مارس 2017
- فبراير 2017
- يناير 2017
- ديسمبر 2016
- نوفمبر 2016
اترك تعليقاً