بقلم وسام الصغير: اليسار بين تجارب الماضي ومتطلبات الحاضر

نجح جيل الستينات والسبعينات من الشباب الطلابي المسيس في تأسيس وتجذير الفكر اليساري والتقدمي التونسي، فجل النقاشات الفكرية التي دارت بين القوى اليسارية والتقدمية (ماركسية وقومية) لتأصيل انتماء الشعب التونسي لم تخرج من دائرة النقاش الفكري والسياسي الذي برز في فترة الستينات والسبعينات مهما حيّنت وطوّرت.

هذه الفترة التي لعبت فيها الطلائع الشبابية دورا كبيرا في رسم جزء مهم من واقع ومستقبل المشهد السياسي التونسي ليومنا هذا، بالرغم من الاخطاء التي ارتكبتها (من يمارس يخطئ) والتأثير السلبي على التنشئة السياسية والسلوكية للأجيال اللاحقة .
النقاش حول طبيعة المجتمع التونسي بين من يره مجتمع شبه اقطاعي شبه مستعمر باعتباره لم يبلغ بعد مرحلة الرأسمالية ( مثل الشعلة)، وآخر يعتبره مجتمع رأسمالي تابع للقوى الامبريالية وخادم مطيع له (الخط السائد بمنظمة العامل التونسي)، وآخر يرى أن المجتمع التونسي ينتمي للعالم الثالث وبالتالي وجب على شعوب هذا العالم أن تتحالف مع دول العالم الثاني (دول أوروبا الغربية)، لموجهة دول العالم الاول المتكون من الامبريالية الاشتراكية السوفيتية والامبريالية الرأسمالية الامريكية وكذلك لمواجهة أنظمتها الدكتاتورية (خط نظرية العوالم الثلاث لمنظمة العامل التونسي ومرجعها ماو تسيتونق)
أما الوجه الثاني للجدل والذي نتابع تواصله اليوم لا في الاوساط الشبابية فقط، بل حتى في صفوف كهول وشيوخ الصف الاول للمشهد السياسي، وهو بين من يعتبر “تونس أمة” بحالها وبلغتها (الامة التونسية)، وهذا الموقف عبّر عنه الجيل الاول لمنظمة أفاق أو تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي وفيه اعتبر هذا الجيل أن القومية العربية هي احدى الترهات وأن الشعب الفلسطيني “أحد رعايا دولة اسرائيل التي يشكل أقلية فيها” (الكراس الاصفر)، وقد تناقض مع هذا الموقف “الانعزالي” موقف ثاني يرى تونس معنية بالصراع العربي الصهيوني كخطوة مركزية لبلوغ الاشتراكية التي لن تتحقق إلا بوحدة الاقطار العربية في مواجهة الكيان الصهيوني، وبالتالي فالأمة العربية هي “حقيقة تاريخية” لذلك فتونس تنتمي للأمة العربية.
هذه النقاشات العميقة وغيرها من طريقة التعامل مع الدكتاتورية الحاكمة وطبيعة الثورة المنشودة ووو، خلقت جيل سياسي لا يزال جانب مهم منه اليوم في صدارة المشهد
السياسي (حكم ومعارضة) .
لكن وفي المقابل نلاحظ غياب بروز طليعة شبابية تقدمية تستعمل ميكانيزمات ومتطلبات اليوم في التحليل، وذلك بتحيين التصنيفات وجعلها قادرة على الفعل في الواقع دون أن “تنحرف” على الثوابت، وهذا الغياب لا يمكن أن يعالج إلا بإيمان هذا الجيل بقدرته على الفعل وتسلحه بالفكرة والوسيلة وبإصراره على الخلق والإبداع والتنسيب، فالصورة جميلة وقادرة على التأثير ولو مرحليا، لكنها حتما ستنتهي وستنهي السواعد التي تقتصر في الاعتقاد فيها…
هذه الشريحة الثقافية والفكرية لهذا الجيل الذي لا يزال قاصر على استيعاب متطلبات المرحلة والمستقبل الذي لن يكون “بعيدا”، سيذنب في حق تونس وشعبها بترك الساحة لجيل “ما وراء البحار وروافدهم” من الذين لا تعنيهم القضايا الوطنية التحرّرية والاجتماعية، وهمّهم الرّبح والجشع وفقط…

على فاعلي اليوم من هذا الجيل أن تكون لهم الجرأة على نقد تجارب التأسيس وتجديد المسار عبر تطوير الوسائل، لا الجمود والتحجّر، فالعولمة واقع مفروض يعصف بالعالم، ومواجهة سلبياته الكثيرة وجب أن تعتمد على وسائل تحليل علمية ومادية واقعية ومأثرة، لا أن تكون ممأسسة على “وسائل الماضي” بسياقاته وخصوصياته.

فما على المشاريع الاجتماعية واليسارية التقدمية إلا أن تكون لها الجرأة على المراجعة الدورية الشاملة لمنظومتها الفكرية وأن تجاوز ما هو مرحلي وتكتيكي.

ولنا في بعض التجارب الغربية وبعض تجارب أمريكا اللاتينية أمثلة عدة لهذه النكسات، منها تزايد ضعف القوى اليسارية في بوليفيا، وهزيمته في الانتخابات البرلمانية في فنزويلا، وانتخاب الرئيس اليميني موريسيو ماكري في الأرجنتين، وفضائح الفساد في الحكومة اليسارية بالشيلي، وقرار الرئيس الإكوادوري رافايل كوريا بعدم الترشح لانتخابات 2017، وما جرى في البرازيل بعد تنحية الرئيسة اليسارية ديما روسيف وتعويضها بنائبها الليبرالي ميشال تامر، كما لا ننسى نكسة وخيبة الأمل من حكم حزب “سيريزا” ومن زعيمه أليكسيس تسيبراس باليونان لدخوله بيت الطاعة ورضوخه لسياسة التقشف التي فرضها عنه الاتحاد الاوروبي كخيار بعد اعلانه الانحياز للتوجهات اليسارية والاجتماعية اثر انتخابه بعد الازمة الاقتصادية والمالية التي تشهدها اليونان.

أمام هذه النكسات وأمام هذا التراجع الذي تعيشه بعض التجارب اليسارية في العالم يمكن أن يلوح بريق أمل لتجارب يسارية أخرى استطاعت أن تراجع وتطور طرحها وأن تفتح لها طريقا للنجاح إن جذّرت هذا التطوير، كحزب بوديموس (قادرون) باسبانيا.v

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.