كان النجاح في مناظرة السيزيام هو الجواز الذي رسخ صلتنا بالمدينة ومثل المبيت بشروطه القاسية المختبر الحقيقي لصبرنا على الانتظام وتشرب لون اخر من الحياة له ضوابطه وقوانينه التي كانت تصيبنا بالدوار وتجعل معاناتنا مضاعفة فما كان أشق على أنفسنا الصغيرة التي استأنست بحياة طليقة أن تهضم القيود والتحكم في حركاتها وسكناتها…ابتدأت الحكاية مع قائمة باسماء غريبة للملابس وأدوات التنظيف والملاحف والأغطية التي لم نسمع بها ولم نرها الا عندما نطلبها من التجار ولم يكن كثير منهم يمتلكها في متجره لأن الطلب عليها غير متواتر.
كابدنا طويلا لملء حقائبنا بهذه المشترطات وكم أزعجنا أن نخيط ارقامنا على كل قطعة لباس وتراءت لنا هذه الحياة قبل أن نباشرها شديدة التعقيد وتبين الفرق شاسعا بين حياتنا البدوية البسيطة وبين مطالب المبيت التي أملت علينا قطعا من اللباس لم نكن نعرفها ففي باديتنا التي أخذ طيفها يبتعد شيئا فشيئا كنا نتصرف في عدد محدود من الثياب أغلبها مقدود من أكياس مشروع بام ” PAM ” الأمريكي الذي كان يؤسس للتاخي بين الشعوب بحسب ما تشير اليه العلامة المرسومة على ظهر اكياس الدقيق. وهي عبارة عن صورة ليدين تتصافحان فضلا عن جملة مكتوبة باللون الأحمر ” ليس للبيع او المبادلة ” تنبه المستهلكين والحكام الى مغبة المتاجرة بهذه المادة لأنها هدية من الشعب الأمريكي. هذا ظاهر المكتوب اما ما خفي فكنا ابعد الناس عن ادراكه.
هذه الأكياس التي توزع مجانا مع مواد غذائية اخرى كانت العائلات تغسلها وتتولى تفصيلها تبابين واسعة لأبنائها وكثيرا ما كان الواحد يرتدي هذا التبان وقد كتب على مؤخرته ” ليس للبيع أو المبادلة ” ولو عاش هذا الصبي في مستقبل الدهر لغدا أضحوكة لكل متصفح…
عالم المدينة اخر وعالم المبيت كان صورة مصغرة لثكنة ضباطها من القيميين الأشداء ومن ورائهم قيم عام ومدير وكان الجميع يعمل على إخراجنا من همجيتنا الريفية الى شروط الحداثة المفروضة فرضا بمزاج عربي ليس فيه للطفل حق سوى الإذعان للأوامر المسقطة ولم يكن القيمون يتوفرون على رصيد بيداغوجي او يلمون ببعض المعارف من علم النفس التربوي وإنما كانوا يواجهون همجية الأطفال بهمجية الكبار وترتب عن هذا أن غادر بعض التلاميذ المبيت لأنهم لم يطيقوا عنه صبرا وانقطع البعض الاخر عن الدراسة نهائيا رغم تفوقهم.ولم يكن للادارة والقيميين من المام بشؤون التربية شيء يذكر عدا العصا والصفع وإنزال العقوبة القاسية لأبسط الهفوات.
في المبيت عودنا أنفسنا شيئا فشيئا على حياة رتيبة قاسية تنطلق من الخامسة صباحا الى حدود العاشرة ليلا كنا فيها جنودا نسير الى المغسل و المطعم وقاعة المراجعة وقاعة الدرس صفا يحرص الواحد منا خلاله على عدم الانحراف يمينا أو شمالا تجنبا لمغبة الصراخ والصفع.
كان تكيفنا مع معطيات الواقع الجديد أمرا عسيرا على أنفسنا الغضة
وكنا نتجرع من الظلم ألوانا لكننا لم نكن نستطيع البوح بذلك لأن حقوقنا كانت مهدورة كما هي حقوق ابائنا واهلنا ورغما عن ذلك كنا نتحمل ذلك لأن مقابل ذلك المعرفة التي حررتنا شيئا فشيئا من عجزنا وجعلتنا نعيش معاناة من نوع اخر…..
” يتبع ”
مصبـــــــــاح شنيــــــــــــــــب